روي عن بشر النخاس انه قال دعاني الامام الهادي عليه السلام للقدوم إليه فلبست ثيابي ودخلت عليه فرأيته يحدّث ابنه أبا الحسنالعسكري وأخته حكيمة من وراء الستر، فلمَّا جلست قال: (يا بشر، إنَّك من ولد الأنصار، وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عنسلف، فأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها شأو الشيعة في الموالاة بها بسرّ اُطلعك عليه واُنفذك فيابتياع أمَة)،
فكتب كتاباً ملصقاً بخطّ رومي ولغة رومية، وطبع عليه بخاتمه، وأخرج صرة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً، فقال: (خذها وتوجَّهبها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات مكان كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وبرزنّ الجواري منها واتوا المشترين، فإذارأيت ذلك فراقب من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامّة نهارك إلى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسةحريرتين صفيقتين، تمتنع من السفور ولمس الرجال لها، والانقياد لمن يحاول لمسها ويشغل نظره بتأمّل مكاشفها من وراء الستر الرقيقفيضربها النخّاس فتصرخ صرخة رومية، فاعلم أنَّها تقول: وا هتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين: عليَّ بثلاثمائة دينار، فقد زادنيالعفاف فيها رغبة، فتقول بالعربية: لو برزت في زيّ سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك، فيقولالنخّاس: فما الحيلة ولا بدَّ من بيعك، فتقول الجارية: وما العجلة؟ ولا بدَّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي (إليه)إلي أمانته وديانته، فعندذلك قم إلى عمر بن يزيد النخّاس وقل له: إنَّ معي كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخطّ رومي، ووصف فيه كرمه ووفاهونبله وسخاءه، فناولها لتتأمَّل منه أخلاق صاحبه فإن مالت إليه ورضيته، فأنا وكيله في ابتياعها منك). قال بشر بن سليمان النخّاس:فامتثلت جميع ما حدَّه لي مولاي أبو الحسن عليه السلام في أمر الجارية، فلمَّا نظرت في الكتاب بكت بكاءً شديداً،
وقالت لعمر بن يزيد النخّاس: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت إنَّه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت افاوضه فيثمنها حتَّى استقرَّ الأمر فيه على مقدار ما كان اعطاني مولاي عليه السلام من الدنانير في الصرة الصفراء، فاستوفاه منّي وتسلَّمتمنه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد فما أخذها القرار حتَّى أخرجت كتاب مولاهاعليه السلام من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدّها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، فقلت تعجباً منها: أتلثمين كتاباً ولاتعرفين صاحبه؟ قالت: أيّها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصرملك الروم، واُمّي من ولد الحواريين تنسب إلى وصيّ المسيح شمعون، اُنبئك العجب العجيب، إنَّ جدّي قيصر أراد أن يزوّجني منابن أخيه وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذويالأخطار سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقوّاد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهو ملكه عرشاًمسوغاً من أصناف الجواهر إلى صحن القصر، فرفعه فوق أربعين مرقاة، فلمَّا صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان وقامت الأساقفةعكفاً ونشرت أسفار الإنجيل تسافلت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض، وتقوَّضت الأعمدة فانهارت إلى القرار، وخرَّ الصاعد منالعرش مغشيّاً عليه، فتغيَّرت ألوان الأساقفة، وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدّي: أيّها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالّةعلى زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطيَّر جدّي من ذلك تطيّراً شديداً، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة، وارفعواالصلبان، واحضروا أخا هذا المدبر العاثر المنكوس جدّه لاُزوّج منه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم بسعوده، فلمَّا فعلوا ذلك حدثعلى الثاني ما حدث على الأوّل، وتفرَّق الناس وقام جدّي قيصر مغتمّاً ودخل قصره وأرخيت الستور.
فأريت في تلك الليلة كأنَّ المسيح والشمعون وعدَّة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدّي ونصبوا فيه منبراً يباري السماء علوّاًوارتفاعاً في الموضع الذي كان جدّي نصب فيه عرشه، فدخل عليهم محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم مع فتية وعدَّة من بنيه، فيقوم إليهالمسيح فيعتنقه فيقول: يا روح الله، إنّي جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمّد صاحبهذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون فقال له: قد أتاك الشرف، فصل رحمك برحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: قدفعلت، فصعد ذلك المنبر وخطب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وزوَّجني وشهد المسيح عليه السلام وشهد بنوا محمّدصلى الله عليهوآله وسلم والحواريون، فلمَّا استيقظت من نومي أشفقت أن أقصَّ هذه الرؤيا على أبي وجدّي مخافة القتل، فكنت أسرّها في نفسيولا أبديها لهم، وضرب صدري بمحبَّة أبي محمّد حتَّى امتنعت من الطعام والشراب وضعفت نفسي ودقَّ شخصي ومرضت مرضاًشديداً، فما بقي من مدائن الروم طبيب إلاَّ أحضره جدّي وسأله عن دوائي، فلمَّا برح به اليأس قال: يا قرَّة عيني، فهل تخطر ببالكشهوة فاُزوّدكها في هذه الدنيا؟ فقلت: يا جدّي، أرى أبواب الفرج عليَّ مغلقة فلو كشفت العذاب عمَّن في سجنك من اُسارىالمسلمين وفككت عنهم الأغلال وتصدَّقت عليهم ومننتهم بالخلاص لرجوت أن يهب المسيح واُمّه لي عافية وشفاء، فلمَّا فعل ذلك جدّيتجلَّدت في إظهار الصحَّة في بدني وتناولت يسيراً من الطعام، فسرَّ بذلك جدّي وأقبل على إكرام الاُسارى وإعزازهم، فرأيت أيضاًبعد أربع ليال كأنَّ سيّدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران وألف وصيفة من وصائف الجنان، فتقول لي مريم: هذه سيّدةالنساء اُم زوجك أبي محمّد عليه السلام، فأتعلَّق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمّد من زيارتي، فقالت لي سيّدة النساءعليها السلام: إنَّ ابني العسكري لا يزورك وأنت مشركة بالله وعلى مذهب النصارى، وهذه أختي مريم تبرأ إلى تعالى من دينك، فإنملت إلى رضا الله عز وجل ورضا المسيح ومريم عنك وزيارة أبني أيّاك فتقولي: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ _ أبي _ محمّداًرسول الله، فلمَّا تكلَّمت بهذه الكلمة ضمَّتني سيّدة النساء إلى صدرها فطيَّبت لي نفسي، وقالت: الآن توقَّعي زيارة أبني إيّاك فإنّيمنفذه إليك، فانتبهت وأنا أقول: وا شوقاه إلى لقاء أبي محمّد، فلمَّا كانت الليلة القابلة جاءني أبو محمّد عليه السلام في مناميفرأيته كأنّي أقول له: جفوتني بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبّك، قال: ما كان تأخيري عنك إلاَّ لشركك، وإذ قد أسلمت فإنّي زائركفي كلّ ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان.
فما قطع عنّي زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية. قال بشر: فقلت لها: وكيف وقعت في الأسر؟ فقالت: أخبرني الامام الهادي ليلة منالليالي أنَّ جدّك سيسرّب جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا، ثمّ يتبعهم فعليك باللحاق بهم متنكّرة في زيّ الخدم مع عدَّة منالوصائف من طريق كذا، ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين حتَّى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت، وما شعر أحد بأنّي ابنة ملكالروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك باطلاعي إيّاك عليه، ولقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته وقلت:نرجس، فقال: اسم الجواري، فقلت: العجب إنَّك رومية ولسانك عربي؟ قالت: كنت مع جدي وقد جعل معي امرأة تتحدث العربية،فكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربية حتَّى استمرَّ عليها لساني واستقام.
قال بشر: فلمَّا انكفأت بها إلى سامراء دخلت على مولانا الامام الهادي عليه السلام فقال لها: (كيف أراك الله عزّ الإسلام وذلّالنصرانية، وشرف أهل بيت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟)، قالت: كيف أصف لك يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به منّي؟ قال:(فإنّي اُريد أن اُكرمك، فأيّما أحبُّ إليك عشرة آلاف درهم، أم بشرى لك فيها شرف الأبد؟)، قالت: بل البشرى، قال عليه السلام:(فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)، قالت: ممَّن؟ قال عليه السلام: (ممَّن خطبكرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له من ليلة كذا من شهر كذا من سنة كذا بالرومية)، قالت: من المسيح ووصيّه؟ قال: (فممَّن زوَّجكالمسيح ووصيّه)، قالت: من ابنك أبي محمّدالحسن العسكري، قال: (فهل تعرفينه؟)، قالت: وهل خلوت ليلة من زيارته إيّاي منذ الليلةالتي أسلمت فيها على يد سيّدة النساء اُمّه. فقال أبو الحسن عليه السلام: (يا كافور، ادع لي أختي حكيمة)، فلمَّا دخلت عليه قالعليه السلام لها: (هاهيه)، فاعتنقتها طويلاً وسرَّت بها كثيراً، فقال لها مولانا: (يا بنت رسول الله، أخرجيها إلى منزلك وعلّميهاالفرائض والسنن فإنَّها زوجة أبي محمّد العسكري واُمّ القائم عليه السلام).
ورواه الطوسي رحمه الله عن جماعة، عن أبي المفضَّل الشيباني، عن أبي الحسين محمّد بن بحر بن سهل الشيباني الرهني، عنبشر بن سليمان النخّاس
_________________
منتديات الأقمارالمحمدية